وَقَالَ
رَجُلٌ
مُّؤْمِنٌ ۖۗ
مِّنْ
اٰلِ
فِرْعَوْنَ
یَكْتُمُ
اِیْمَانَهٗۤ
اَتَقْتُلُوْنَ
رَجُلًا
اَنْ
یَّقُوْلَ
رَبِّیَ
اللّٰهُ
وَقَدْ
جَآءَكُمْ
بِالْبَیِّنٰتِ
مِنْ
رَّبِّكُمْ ؕ
وَاِنْ
یَّكُ
كَاذِبًا
فَعَلَیْهِ
كَذِبُهٗ ۚ
وَاِنْ
یَّكُ
صَادِقًا
یُّصِبْكُمْ
بَعْضُ
الَّذِیْ
یَعِدُكُمْ ؕ
اِنَّ
اللّٰهَ
لَا
یَهْدِیْ
مَنْ
هُوَ
مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ
۟
( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ . . . )قال الإِمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن موسى - عليه السلام - أنه ما زاد فى دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله ، بين أنه - تعالى - قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه ، وبالغ فى تسكين تلك الفتنة ، واجتهد فى إزالة ذلك الشر .ثم قال - رحمه الله - يقول مصنف هذا الكتاب : ولقد جريت فى أحوال نفسى أنه كلما قصدنى شرير بشر ولم أتعرض له ، وأكتفى بتفويض ذلك الأمر إلى الله ، فإنه - سبحانه - يقيض أقواما لا أعرفهم ألبتة . يبالغون فى دفع ذلك الشر . .وظاهر الآية الكريمة يفيد أن هذا الرجل المؤمن كان من حاشية فرعون بدليل قوله - تعالى - : ( مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) ولم يكن من بنى إسرائيل .وقد رجح ابن جرير - رحمه الله - ذلك فقال : وأولى القولين فى ذلك بالصواب عندى : القول الذى قاله السدى من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون ، ولذا فقد أصغى لكلامه واستمع منه ما قاله ، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله . . ولو كان إسرائيليا لكان حريا أن يعاجل هذا القائل له ولملئه بالعقوبة على قوله ، لأنه لم يكن ستنصح بنى إسرائيل لاعتداده إياهم أعداء له . . ولكنه لما كان من ملأ قومه ، استمع إليه ، وكف فرعون عما كان قد هم به من قتل موسى . .قالوا : وهذا الرجل المؤمن هو الذى نصح موسى - عليه السلام - بقوله : ( إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين ) وكان اسمه " حزقيل " او " حبيب " .أى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون وحاشيته ، وكان يكتم إيمانه عنهم ، حتى لا يصيبه أذى منهم ، فعندما سمع فرعون يقول : ( ذروني أَقْتُلْ موسى ) قال لهم : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ) .أى : أتقتلون رجلا لأنه يقول ربى الله وحده ، وقد جاءكم بالحجج البينات ، وبالمعجزات الواضحة من عند ربكم ، كدليل على صدقه فيما يبلغه عنه .فقوله : ( أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله ) فى موضع المفعول لأجله . أى : أتقتلونه من أجل قوله هذا . وجملة ( وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ) حالية من فاعل يقول وهو موسى - عليه السلام - .والمقصود بهذا الاستفهام : الإِنكار عليهم والتبكيت لهم ، حيث قصدوا قتل رجل كل ذنبه أنه عبد الله - تعالى - وحده وقد جاءهم بالمعجزات الواضحات الدالة على صحة فعله وقوله .قال الإِمام ابن كثير : وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون ( ذروني أَقْتُلْ موسى )فأخذت الرجل غضبه لله - تعالى - و " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " اللهم إلا ما رواه البخارى فى صحيحه حيث قال :حدثنا على بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعى ، حدثنى عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنى بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه فى عنقه ، فخنقه خنقا شديدا . فأقبل أبو بكر - رضى الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفع عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " .وقال القرطبى : وعن على - رضى الله عنه - قال : اجتمعت قريش بعد وفاة أبى طالب بثلاث : فأرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل هذا يجؤه - أى يضربه - ، وهذا يُتَلْتِلهُ - أى : يحركه تحريكا شديدا - فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ هذا ويتلتل ذا ، ويقول بأعلى صوته : ويلكم : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ، والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتى أبى بكر يومئذ .ثم يحكى القرآن أن ذلك الرجل المؤمن ، لم يكتف بالإِنكار على قومه قصدهم موسى بالقتل بل أخذ فى محاولة إقناعهم بالعدول عن هذا القصد بشتى الأساليب والحجج فقال : ( وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ . . ) .أى : أنه قال لهم : إن كان موسى - على سبيل الفرض - كاذبا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله فعليه وحده يقع ضرر كذبه ، وليس عليكم منه شئ ، وإن كان صادقا فيما يقوله ويفعله ، فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذى يعدكم به من سوء عاقبة مخالفة ما أتاكم به من عند ربه . .فأنت ترى أن الرجل كان فى نهاية الحكمة والإِنصاف وحسن المنطق ، فى مخاطبته لقومه ، حيث بين لهم أن الأمر لا يخرج عن فرضين ، وكلاهما لا يوجب قصد موسى - عليه السلام - بالقتل .ورحم الله صاحب الكشاف : فقد أجاد عند تفسير لهذه الآية فقال ما ملخصه : وقوله : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله . . . ) هذا إنكار عظيم منه ، وتبكيت شديد لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التى هى قتل نفس محرمة ، وما لكم علة قط فى ارتكابها إلا كلمة الحق التى نطق بها وهى قوله ( رَبِّيَ الله ) . .ثم أخذ فى الاحتجاج عليهم على طريقة التقسيم فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن يك كاذبا فعليه يعود كذبه ولا يتخطاه ضرره ، وإن يك صادقا يصبكم بعض ما يعدكم به إن تعرضتم له .فإن قلت : لم قال : ( بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ ) وهو - أى موسى - نبى صادق ، لابد لما يعدهم أن يصيبهم كله لا بعضه؟قلت : لأنه احتاج فى مقاولة خصوم موسى ومنا كريه ، إلى أن يلاوصهم - أى يحايلهم - ويداريهم ، ويسلك معهم طريق الإِنصاف فى القول ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل فى تصديقهم له وقبولهم منه ، فقال ( وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ ) وهو كلام المنصف فى مقاله ، غير المشتط فيه ، ليسمعوا منه ولا يردوا عليه ، وذلك أنه حين فرضه صادقا ، فقد أثبت أنه صادق فى جميع ما يعد ، ولكنه أردفه بقوله : ( يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ ) ليهضمه بعض حقه فى ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا ، فضلا عن أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق أيضا من هذا القبيل .ثم أرشد الرجل المؤمن الحصيف قومه إلى سنة من سنن الله التى لا تتغير فقال : ( إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .أى : إن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أنه - سبحانه - لا يهدى إلى الحق والصواب ، من كان مسرفا فى أموره ، متجاوزا الحدود التى شرعها الله - تعالى - ومن كان كذابا فى إخباره عن الله - تعالى - ، ولو كان موسى مسرفا أو كذابا ، لما أيده الله - تعالى - بالمعجزات الباهرة . وبالحجج الساطعة الدالة على صدقه .فالجملة الكريمة إرشاد لهم عن طريق خفى إلى صدق موسى فيما يبلغه عن ربه ، وتعريض بما عليه فرعون من ظلم وكذب .قال الجمل فى حاشيته : فالجملة الكريمة كلام ذو وجهين نظرا لموسى وفرعون .الوجه الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى ، والمعننى : إن الله هدى موسى إلى الإِتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه الله إلى ذلك لا يكون مسرفا ولا كذابا .الوجه الثانى : أن يكون المراد أن فرعون مسرف فى عزمه على قتل موسى . وكاذب فى ادعائه الألوهية ، والله لا يهدى من كان كذلك . . .