سَیَقُوْلُ
الَّذِیْنَ
اَشْرَكُوْا
لَوْ
شَآءَ
اللّٰهُ
مَاۤ
اَشْرَكْنَا
وَلَاۤ
اٰبَآؤُنَا
وَلَا
حَرَّمْنَا
مِنْ
شَیْءٍ ؕ
كَذٰلِكَ
كَذَّبَ
الَّذِیْنَ
مِنْ
قَبْلِهِمْ
حَتّٰی
ذَاقُوْا
بَاْسَنَا ؕ
قُلْ
هَلْ
عِنْدَكُمْ
مِّنْ
عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوْهُ
لَنَا ؕ
اِنْ
تَتَّبِعُوْنَ
اِلَّا
الظَّنَّ
وَاِنْ
اَنْتُمْ
اِلَّا
تَخْرُصُوْنَ
۟
3
ثم حكى القرآن بعد ذلك شبهة من الشبهات الباطلة التى تمسك بها المشركون فى شركهم وجهالاتهم ورد عليها بما يبطلها ويخرس ألسنة قائليها أو المتذرعين بها فقال : { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ . . . } .إن هذه الآيات الكريمة تعرض لشبهة قديمة جديدة : قديمة لأن كثيرا من مجادلى الرسل موهوابها ، وحديثة لأنها دائما تراود كثيرا من المتمسكين بالأوهام فى سبيل إرضاء نزواتهم من المتع الباطلة والشهوات المحرمة .إنهم يقولون عندما يرتكبون القبائح والمنكرات : هذا أمر الله ، وهذا قضاؤه ، وتلك مشيئته وإرادته ، ولو شاء الله عدم فعلنا لهذه الأشياء لما فعلناها وإذا كان الله قد قضى علينا بها فما ذنبنا؟ ولماذا يعاقبنا عليها؟ إلى غير ذلك من اللغو الباطل ، والكلام العابث الذى يريدون من ورائه التحلل من أوامر الله ونواهيه .ولنتدبر سوياً أيها القارىء الكريم - هذه الآيات ، وهى تحكي تلك الشبهات الباطلة ، ثم تقذفها بالحق الواضح ، والبرهان القاطع ، فإذا هى زاهقةيقول - سبحانه - { سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } .أى : سيقو هؤلاء المشركون لو شاء الله - تعالى - ألا نشرك به وألا يشرك به آباؤنا من قبلنا ، لنفذت مشيئته ، ولما أشركنا نحن ولا آباؤنا .ولو شاء كذلك ألا نحرم شيئاً مما حرمناه من الحرث والأنعام وغيرها لتمت مشيئته ولما حرمنا شيئاً مما حرمنا .ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، بل شاء لنا أن نشرك معه فى العبادة هذه الأصنام ، وأن نحرم ما نحرم من الحرث والأنعام وقد رضى لنا ذلك فلماذا تطالبنا يا محمد بتغيير مشيئة الله ، وتدعونا إلى الدخول فى دينك الذى لم يشأ الله دخولنا فيه؟قال الآلوسى ما ملخصه : " وهم لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح ، لأنهم لم يعتقدوا قبح أفعالهم وإنما مرادهم من هذا القول الاحتجاج على أن ما ارتكبوه - من الشرك والتحريم - حق ومشروع ومرضى عند الله ، بناء على أن المشيئة والإرادة تسابق الأمر وتستلزم الرضا ، فيكون حاصل كلامهم :إن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله وإرادته ، وكل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنده . فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضى عند الله " .وقد حكى القرآن فى كثير من آياته ما يشبه قولهم هذا ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } وقوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقد رد القرآن على قولهم بما يبطله فقال : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } .أى : مثل هذا التكذيب من مشركى مكة للرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إبطال الشرك ، قد كذب الذين من قبلهم لرسلهم ، واستمروا فى تكذيبهم لهم حتى أنزلنا على هؤلاء المكذبين عذابنا ونقمتنا .ومن مظاهر تكذيب هؤلاء المشركين لرسلهم ، أنهم عندما قال لهم الرسل عليهم السلام - اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . كذبوهم واحتجوا عليهم بأن ما هم عليه من شرك واقع بمشيئة الله ، وزعموا أنه ما دام كذلك فهو مرضى عنده - سبحانه - فكان الرد عليهم بأنه لو كان هذا الشرك وغيره من قبائحهم مرضيا عنده - سبحانه - : لما أذاق أسلافهم المكذبين - الذين قالوا لرسلهم مثل قولهم - عذابه ونقمته . ولما أخذهم أخذ عزيز مقتدر .قال الآلوسى ما ملخصه : وحاصل هذا الرد أن كلام المشركين يتضمن تكذيب الرسل وقد دلت المعجزة على صدقهم ، ولا يخفى أن المقدمة الأولى وهى أن كل شىء بمشيئة الله : لا تكذيب فيها ، بل هى متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل شىء بمشيئة الله ، وامتناع أن يجرى فى ملكه خلاف ما يشاء . فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية ، وهى أن كل ما تعلقت به مشيئة الله وإرادته فهو مشروع ومرضى عنه ، لأن الرسل عليهم السلام : يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم : إن الله لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء ، فيكون قوله : إن ما نرتكبه مشروع ومرضى عنده سبحانه : تكذيب لقول الرسل . وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة ، وحينئذ يصدق نقيضها وهى أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضى عنده - سبحانه - بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر .ثم بعد هذا الرد المفحم للمشركين أمر الله : تعالى : رسوله أن يطالبهم بدليل على مزاعمهم فقال : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } .أى : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتعجيز : هل عندكم من علم ثابت تعتمدون عليه فى قولكم { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا } ! إن كان عندكم هذا العلم فاخرجوه لنا لنتباحث معكم فيه ، ونعرضه على ما جئتكم به من آيات بينة ودلائل ساطعة . فإن العاقل هو الذى لا يتكلم بدون علم ، ولا يحيل على مشيئة الله التى لا ندرى عنها شيئاً .و { مِّنْ } فى قوله { مِّنْ عِلْمٍ } زائدة ، وعلم مبتدأ ، وعندكم خبر مقدم .وقوله : { فَتُخْرِجُوهُ } منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الاستفهام الإنكارى .ثم بين حقيقة حالهم فقال : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } .أى : أنتم لستم على شىء ما من العلم ، بل ما تتبعون فى أقوالهم وأعمالكم وعقائدكم إلا الظن الباطل الذى لا يغنى من الحق شيئا . وما أنتم إلا تخرصون أى تكذبون على الله فيما ادعيتموه .واصل الخرص : القول بالظن . يقال : خرصت النخل خرصا - من باب قتل - حزرت ثمره وقدرته بالظن والتخمين ، واستعمل فى الكذب لما يداخله من الظنون الكاذبة ، فيقال : خرص فى قوله - كنصر - أى كذب .