وَلَقَدْ
اٰتَیْنَا
مُوْسَی
الْكِتٰبَ
وَقَفَّیْنَا
مِنْ
بَعْدِهٖ
بِالرُّسُلِ ؗ
وَاٰتَیْنَا
عِیْسَی
ابْنَ
مَرْیَمَ
الْبَیِّنٰتِ
وَاَیَّدْنٰهُ
بِرُوْحِ
الْقُدُسِ ؕ
اَفَكُلَّمَا
جَآءَكُمْ
رَسُوْلٌۢ
بِمَا
لَا
تَهْوٰۤی
اَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ ۚ
فَفَرِیْقًا
كَذَّبْتُمْ ؗ
وَفَرِیْقًا
تَقْتُلُوْنَ
۟
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . )في هاتين الآيتين تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام .والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة ، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوارمه وأولوها تأويلا سقيما .ومعنى ( وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل ) أردفنا وأرسلنا من عبد موسى رسلا كثيرين متتابعين ، لإِرشاد بني إسرائيل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .يقال : قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً ، إذا تبعه . وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه . وقفيته زيداً به : أتبعته إياه . واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه ، والقفا مؤخر العنق ، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه .والرسل : جمع رسول بمعنى مرسل ، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - : منهم : داود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام - .فمن مظاهر نعم الله على بني إسرائيل ، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم ، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين ، لكي يبشروهم وينذروهم ، ولكن بني إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران ، فقد حرفوا كتب الله ، وقتلوا بعض أنبيائه .والمراد بالبينات في قوله : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ) الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحاء الموتى ، والإِخبار ببعض المغيبات ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - .وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل ، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام - .وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر .وقوله : ( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس ) أي : قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة .وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، قال - تعالى - :( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق . . . ) والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر . فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب . والروح تحيا به الأجسام .أي : أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام - .ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال : ( أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) .أي : أفكلما جاءكم يا بني إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم ، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب :وتهوى : من هوى إذا أحب " والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية .واستكبرتم : تكبرتم ، والتكبر ينشأ عن الأعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها . وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك ، وساقتها إلى سوء المصير .وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم ، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر .وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال : ( تَقْتُلُونَ ) ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم ، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة . يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً . ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء ، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضه على الفعل الواقع في الحال . فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع ، وجعله ينظر إليها بعينه ، فيكون إنكاره لها أبلغ ، واستفظاعه لها أعظم .